Headlines
نشرت في:
نشرت بواسطت kamachin

" زمن و فكر طه حسين و بعض آرائه: و آراء مفكرين بالمغرب في التعليم الأمثل، و الحياة"

بقلم :" عبد القادر أحمد بن قدور" قبل البدء في هذا المقال، لا بد من الإشارة إلى الزمن و العصر و البيئة و الظروف التي أحاطت بالأديب الكبير و المفكر طه حسين، الذي تعود صلته المباشرة بالمغاربة إلى ثلاثينيات و أربعينيات القرن المنصرم لما توجهت بعثات طلابية مغربية إلى مصر للنهل من حياض العلم في جامعتها و معاهدها و تتلمذوا عليه لما ولجوا رحاب كلية الآداب في جامعة القاهرة، و فترة التكوين الأولى كانت في حياة طه حسين خلال العقد الأول من القرن العشرين ( 1900 ـ 1910 )، من أخطر فترات حياته ، هذه الفترة هي التي دخل فيها هذا الفتى إلى جامعة الأزهر نحو عام 1902 و هو في سن الثالثة عشرة من عمره، حتى أخرج منه نحو عام 1910 م ثم التحق بالجامعة الأهلية التي أنشئت حديثا في سنة 1908م . و في السنوات الثماني التي وصفها طه حسين في الجزء الأول من كتاب مذكراته (الأيام) وصفا خلابا و رائعا، يجمع د ماء الرثاء في العيون، و يرسم ابتسام السخرية على الشفاه. طه حسين جمع في ذخيرته الأولى من الأدب العربي الذي قيض له بعد فترة أن يكون أستاذه الأكبر و عميده الذي لا يشق له غبار منذ القرن الرابع الهجري: أي منذ ألف عام. و زيادة، كما ظهرت على طه حسين بدايات ذلك التمرد الفكري و القلق الروحي و الثورة الأدبية و الفنية و هي التي جعلت منه محطم أوثان و عنيدا بعد عقود من الزمن، و بهذا اجتمعت له الأصالة و التجديد كما يقول العديد من المفكرين و الأدباء، كما كانت هاته الفترة هي صدامه الأول مع المؤسسة الفكرية و الروحية و الأدبية و الاجتماعية و السياسية و التي جعلت ينشق على بيته و جامعته الكبيرة ــ الأزهر ــ و عاد يطلب العلم الجديد و المنهج الحديث، و القيم الجديدة في الجامعة الجديدة التي حل بها مثقفي عصره، الجامعة الأهلية و هي نواة الجامعة المصرية المنشأة في سنة 1925م و التي أصبحت فيما بعد جامعة القاهرة . و في العقد الأول من القرن العشرين تبلور ذلك الاختمار العظيم الذي تفجر فيما بعد في ثورة 1919 . إذ منذ سنة 1895 كان العلامة و الإمام محمد عبده يروح و يغدو في صحن الأزهر و في دار الإفتاء يدعو لتجديد الأزهر و تطوير علومه و مناهجه و بتجديد شاب الإسلام بتصفيته من جمود المتعصبين و بتأكيده للعقلانية و تمشيه مع العلوم العصرية، و بسبب هذا دخل في معارك مريرة مع أئمة علماء الدين المحافظين في عصره و مع الخديوي عباس الثاني الذي كان يستخدم أئمة علماء الدين المحافظين لتوطيد حكمه الأوتوقراطي و لنهب الأوقاف الخيرية و الأهلية و لتعميق تبعية مصر لتركيا باسم حماية الإسلام و الخلافة العثمانية، و بإسم مقاومة الاحتلال البريطاني ، و قد عاصر الفتى طه حسين أواخر أيام الإمام محمد عبده قبل موته في 1905 ، و كذلك تأثر بلهيب من فكر قاسم أمين الذي هو رسول تحرير المرأة المصرية و العربية الذي أتم رسالته نحو عام 1900 م و مشه لهيب من فكره الثائر ضد بعض التقاليد البالية . و منذ سنة 1906 ، بعد حادثة طابة الشهيرة ثار لطفي السيد مع أعيان المصريين على أوتوقراطية الخديوي عباس الثاني و طالبوا بالدستور و الحياة الديمقراطية و ثاروا على التبعية العثمانية و جددوا الدعوة للقومية العربية، و أسسوا حزب الأمة و جريدة ( الجريدة) للدعوة لمصر المصرية و للتنوير و الحرية و لتجديد شباب مصر بكافة مقومات الحضارة الأوروبية الحديثة . هذا، و قد فجرت طابة بالذات هذين التيارين، تيار القومية المصرية، و تيار الدعوة الديمقراطية، لأن الخديوي عباس الثاني و الحزب الوطني الموالي له و الباب العالي كانا يعملان على سلخ سيناء، أو الأكبر منها من الأراضي المصرية، و تسليمها للدولة العثمانية، باسم مناوأة الإنجليز، و قد قيل يومئذ أن سعد زغلول الزعيم الكبير كان هو العقل المدبر وراء كل هذه الثورة على الحكم الملكي المطلق بمصر و على التبعية العثمانية، و لكن حقيقة الأمر أن سعد زغلول لم يكن إلا عاطفا يعطف على مبعدة لأنه كان ينتمي إلى شريحة اجتماعية مختلفة عن قيادات حزب الأمة من أبناء الأرستقراطية المصرية الثائرة على الخديوي و على الأتراك. فقد كان سعد زغلول ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الزراعية، و لهذا تأجلت قيادته لجماهير المصريين في سبيل الاستقلال و الديمقراطية حتى إلى ثورة 1919 حينما أصبحت للطبقات المتوسطة المصرية قاعدة عريضة و قوية أقرب إلى روح الجماهير من أعيان المصريين . في هذا الجو كان إذن تكوين طه حسين الأول منذ دخوله إلى الأزهر حتى خروجه منه ، و كانت المؤثرات الأولية في حياته هي محمد عبده و قاسم أمين و لطفي السيد و على الوجه الأكيد كان هؤلاء الثلاثة يعلمونه أشياء مما لم يكن المرء يتعلمه من العلوم النقلية في جامعة الأزهر في ذلك الزمان . و من هنا تفتح عقل طه حسين الشاب على علوم و فلسفات و مناهج في البحث و التفكير غير ما كان يلقن في دراسته التقليدية، و كان ذلك مصدر كل القلق النفسي و الصراع الفكري و الاحتجاج الجدلي الذي نجد صداه و صوته في كتابه (( الأيام)) . و هكذا ترسبت في ذهن هذا الشيخ الناشئ الثائر فكرة ( الثقافة) و فكرة ( المعاصرة) و فكرة ( التجديد) و فكرة ( الأدب للحياة). و دخل طه حسين المرحلة الثانية لتكوينه في العقد الثاني من القرن العشرين (1910 ــ 1920 ) فكانت هذه في الواقع مرحلة التخصص و العلم العالي، و قد بدأت هاته المرحلة بدخوله الجامعة القديمة، حيث درس على المستشرقين و أساتذة الفلسفة و التاريخ و علم الاجتماع، حيث اتصل اتصالا مباشرا بالعقلية الأوروبية و بالفكر الأوروبي، فتعلم من الأوروبيين مناهج البحث و طرح الأسئلة و الإجابة عليها، فلما تخرج من كلية الآداب القديمة اختير في بعثة إلى فرنسا حيث قضى أكثر فترة الحرب العالمية الأولى متنقلا بين باريس و مونوبيليه، و في فرنسا أتقن اللغة الفرنسية، و تعلم شيئا من اليونانية و اللاتينية إلى جانب دراساته العربية، و تعرف على زوجته الفرنسية سوزان بريو التي كان لها أكبر الأثر في حياته لأنها أحاطت حياته اليومية بجو من النظام و الصحة و الدقة و التركيز و التوازن و الاهتمام بالشكل مع المحافظة على الجوهر مما أعانه كثيرا على أداء رسالته، و جعلت من ضعف هذا الرجل الضرير قوة، فحمته من الفضوليين و من السفهاء، و أبرأته من عقدة العميان أو عقدهم، و علمته المواجهة الاجتماعية، فلم يكن كل ذلك بالأمر الهين، و في هذه المرحلة الثانية انجدب طه حسين بقوة متفلسف عربي قديم شاطره نعمة التفلسف و نقمة العمى، و هو الشاعر العربي الكبير أبو العلاء المعري، كما انجدب إلى ابن خلدون فكتب عنهما،و في فرنسا أحب طه حسين اليونان و كان هوميروس ضريرا مثله فأحبه حبا كبيرا و عميقا، و كان تيرسياس نبيا ضريرا فأحبه حبا كبيرا و كان أوديب ملكا مخلوعا ضريرا فأحبه كذلك حبا عميقا. و لكن بمأساته كيف يقهر هذه المأساة. فقدم له مع اليونان قصة، و ترجم لقراء العربية في العشرينيات و الثلاثينيات و الأربعينيات نماذج رائعة من روائع الأدب اليوناني و الفكر اليوناني العظيم آنذاك في القرن العشرين، و يمكن أن نقول إن مرحلة التكوين التالية له انتهت بعودته من أوروبا سنة 1918 و معه درجة الدكتورة الفرنسية ثم بداية اشتغاله أستاذا للأدب العربي في الجامعة الأهلية التي أوفدته ليتم علومه في فرنسا. و قد كان أهم ما حصله طه حسين في بعثته الفرنسية أربعة أمور: 1) منهج أو مناهج البحث الأكاديمي . 2) اكتشاف اليونان أدبا و فلسفة و تاريخا و اكتشاف ((الإنسان)) من خلال اليونان . 3) و اكتشاف وحدة الإنسان من خلال وحدة الحضارات الراقية و القيم الراقية . 4) تعميق إيمانه بأقانيم العقل و الحرية و حقوق الإنسان، تلك الأقانيم التي كان قد أخذها من قبل عن محمد عبده، و قاسم أمين و لطفي السيد، و لكنها كانت مجرد ترف من ترف المثقفين الثوار، فلما لمس طه حسين بنفسه أثر هذه الأقانيم في الحضارة الأوروبية الحديثة بصفة عامة و في الحضارة الفرنسية الحديثة بصفة خاصة، اتخذت هذه المبادئ الشكلية الهيكلية في وجدانه مضمونا ثوريا فكريا و اجتماعيا معا . و هكذا دخل طه حسين مرحلته الثالثة في العشرينيات من القرن 20 ( 1929ــ1930 ) التي لم تكن مرحلة تكوين بل كانت مرحلة نضوج . و لم يكن نضوجه العلمي أو نضوجه الفكري. أهم ما فيه ، و إنما كانت أهم سمات هذه المرحلة هي نضوجه الوجداني، لقد عرف طه حسين أن له رسالة و أن عليه تكليفا هما: قيادة المثقفين المصريين و العرب عامة في اتجاه العقلانية و الحرية الفكرية، و العمل على بناء قاعدة من المثقفين عريضة و راسخة يمكن أن تقود مصر و الرأي العام . أما حرية الجماهير فلم يندفع طه حسين في هذه المرحلة من حياته للتصدي لها، بل أجلها إلى مراحل أخرى لاحقة من حياته . و قد كان تخلف طه حسين عن الدفاع عن حرية الجماهير في هذه الفترة من حياته نتيجة لنقائض هذه الفترة، فقد نشأ طه حسين في كنف الصفوة الفكرية الثائرة الأرستقراطية المصرية التي أنجبت لطفي السيد و آل عبد الرزاق ( علي عبد الرزاق و مصطفى عبد الرزاق) و أضرابهم، و قد كانت ثورية هذه الصفوة في حقيقتها ثورية حضارية،قبل أن تكون ثورية سياسية، و كانت مثل شيء بثورية الخديوي إسماعيل في القرن 19، و لأنها كانت ثورة الأرستقراطية المصرية فقد اتخذت ثوريتها السياسية اتجاه القومية المصرية لتحرير مصر من التبعية العثمانية، و اتجاه الديمقراطية لوضع حد للحكم المطلق و نقل سلطة الخديوي أو الملك و الذوات الترك إلى الأعيان المصريين و صفوتهم، و لم تكن تقصد بالديمقراطية حتى منذ البداية، نقل السلطة السياسية إلى أيدي الجماهير على الوجه المطلق، و إنما كانت تقصد بالحكم الدستوري سيادة القانون بدلا من الحكم (الشخصي) حيث إرادة الحاكم هي القانون و تقصد بالديمقراطية السياسية نقل السلطة السياسية من العرش إلى الشعب من خلال حكم الصفوة العارفة بمصالح البلاد الحقيقية و بمصالح الشعب الحقيقية . أما انتقال السلطة السياسية إلى أيدي الجماهير الجاهلة مباشرة فقد كان في نظرها مرادفا لحكم الغوغاء و ليس مرادفا للديمقراطية. و من هنا فقد كان أقرب النظم إلى مفهوم الديمقراطية عند الأرستقراطية المصرية هي الديمقراطية الأرسطاطاليسية ( نسبة إلى أرسطو) أو ما يسمى أحيانا الديمقراطية في ظل القانون أو ما يسمونه أحيانا بالملكية المقيدة. و من هنا أيضا اشترطت الأرستقراطية المصرية لنجاح الديمقراطية في مصر ترقية المجتمع المصري من القمة إلى القاعدة بنشر التعليم و نشر القيم العقلانية و تجديد مصر بمقدمات الحضارة الحديثة ليس فقط من حيث الكيان الاقتصادي، و لكن قبل كل شيء من حيث القيم الفكرية و الأخلاقية و الاجتماعية ... فماذا فعل طه حسين في مواجهة ثورة 1919 ؟ لم تكن هناك في البداية مشاكل لأن الثوار على كل مستوى، على مستوى النبلاء و على مستوى الطبقات المتوسطة و على مستوى الطبقات الشعبية، قد اتحدت كلماتهم في 13 نونبر 1918 على تحرير مصر من يد الإنجليز، اتحدت كلمة زعماء البلاد من متطرفين و معتدلين و بين الحزب الوطني و حزب الأمة و ما بينهما على مطالبة الانجليز باستقلال مصر و مطالبة السلطان فؤاد بالدستور. و لكن سرعان ما تكشف أن ثوار 1919 يتكلمون لغة واحدة لها معان متعددة، أغلبية ساحقة بشعبيتها و ثوريتها مع سعد زغلول تطالب بالاستقلال الكامل و بدستور ديمقراطي ينقل السلطة السياسية كاملة إلى أيدي الجماهير، و أقلية قوية بمالها و علمها مثل عدلي يكن ترضى بحلول وسط مع الإنجليز و مع العرش، و هكذا انشق ((العقلاء)) من قادة (( حزب الأمة)) ( كبار الملاك) بزعامة عدلي يكن من التيار الوطني الديمقراطي العريض العميق الذي قاده (( الوفد المصري )) ( أوساط الملاك) بزعامة سعد زغلول و قد كان في حقيقته آخر العرابيين و ولد حزب ( الأحرار الدستوريين من أنقاض ((حزب الأمة ))، و كانت التهمة الأولى التي وجهها عدلي يكن و رجاله إلى سعد زغلول و رجاله أنهم كانوا في حقيقتهم زعماء رعاع و قادة غوغاء، لأن سعد زغلول كان يتلقى تفويضه من الأمة أو من الشعب كما نقول اليوم و ليس من حب و لا نسب و لا جاه و لا عقل و لا ثقافة و لأن سعد زغلول كان في كل منعطف سياسي و في كل مفاوضة مع الإنجليز أو مع العرش ينادي: احتكموا إلى الأمة ! فيجلجل نداؤه في كل ركن من أركان وادي النيل. و زغلول و رجاله فقد كان بسيطا: إن العبد ليس بحاجة إلى دراسة أرسطو ليحس بأنه عبد فأغلاله الثقيلة هي شاهد عبوديته ، و طلب الحرية ليس بحاجة إلى فلسفة المتفلسفين، و وراء هذا الانشقاق الكبير بين ((العقل )) و (( العاطفة)) كانت هناك مصالح طبقية بعضها سافر و بعضها مستتر . و في هذه الملحمة الكبرى بين ((العقل)) و ((العاطفة)) انضم طه حسين إلى (( العقلاء)) و كان يكتب في جريدة ((السياسة )) لسان حال الأحرار الدستوريين هجر القول في سعد زغلول. و حين كانت مصر تبحث عن دستورها فوجدته في دستور 1923 الذي يمثل أضعف الإيمان الديمقراطي، ترجم طه حسين (( الدستور اللاتيني )) لزينوفون ليعرف المصريين أخطار الديمقراطية المطلقة أو الديمقراطية المباشرة، و لم يكن مصادفة أن لطفي السيد أيضا توافر في العشرينيات على ترجمة كتاب ((السياسة)) لأرسطو ليحذر الناس بتجربة القدماء من أخطار ديمقراطية الرعاع حيث لا قانون إلا إرادة الجماهير، أو حيث (( صوت الشعب هو صوت الله )) كما يقال في بعض المذاهب السياسية . و قد كان طه حسين في ذلك منسجما مع نفسه و متناقضا معها في وقت واحد، كان منسجما مع نفسه لأنه كان عقلانيا و مثقفا و عضوا في طبقة الصفوة الممتازة، فانحاز للعقلانيين و للمثقفين و للصفوة المؤهلة لقيادة البلاد، بحكم عقلها و ثقافتها ، و لا شك أن فضل الأرستقراطية المصرية عليه و رعايتها إياه حتى يكتمل نضوجه العلمي و الأدبي و الثقافي كان لهما أثر كبير في انضوائه تحت لواء الأحرار الدستوريين ، فلم يطرح على نفسه الأسئلة التالية التي كان ينبغي أن يطرحها و هي: و هل كل كبار الملاك الذين أيدوا حزب الأحرار الدستوريين و حزب الأمة من قبله كانوا حقيقة عقلانيين و مثقفين و من الصفوة المؤهلة لقيادة البلاد بحكم عقلها و ثقافتها مثل عدلي يكن و عبد الخالق ثروت و عبد العزيز فهمي و آل شعراوي و عبد الرازق، أم إن الكثرة منهم لم تكن من الصفوة إلا بقوة الجاه و المال و هما وحدهما لا يؤهلان أحدا لقيادة أحد في أي بلد متمدن ؟ ثم هي الأرستقراطية و الصفوة قادرة على حماية الشعب من الملك فمن ذا الذي يحمي الشعب من الأرستقراطية إن هي تناقضات مصالحها من مصالح الشعب؟ ثم من أين للمجتمع بهذا الميزان الدقيق الذي يوازن بين الحرية و القانون بحيث لا تغير الحرية على القانون فتصير إلى الفوضى و لا يغير القانون على الحرية فتصير من جديد إلى الاستبداد و الجمود باسم المحافظة على النظام ؟ ثم ما مصدر السلطة في أي كيان اجتماعي عاقل و عقلاني و ديمقراطي يرفض التفويض بحق الملوك الإلهي أو حق الصفوة الإلهي. إلا أن تكون الأمة مصدر السلطات بموجب الحق الطبيعي كما كان يقول سعد زغلول و الوفديون ؟ مهما يكن من شيء فقد انحاز طه حسين في ثورة 1919 إلى عدلي يكن و حزب العقلاء و المعتدلين الذين رأوا في تحرير الجماهير قبل ترقيتها و تنويرها خطرا على الحرية نفسها . و لا يستهين بما قد كان ، لأن انضمام طه حسين إلى صفوف الشعب كان له مغزى أعمق من كل ذلك، لأنه قد خرج بالمثقفين من عزلتهم السياسية و حطم ذلك الحاجز السميك الذي كان يفصل الفكر عن الحياة، و الأدب عن المجتمع، و الخاصة عن الجماهير. و قد كان المثقفون المصريون حتى معركة الاستقلال بالجامعة في الثلاثينيات ينشأون عادة في كنف السادة و الأعيان و كل ذي جاه و سلطان، لا أقول ملقا أو نفاقا أو ارتزاقا، و لكن حماية لأدبهم و قيمهم و علمهم العالي الذي لا مكان له بين الجماهير، كانوا يديرون ظهرا للجماهير التي لا تفهم و لا تحاول أن تفهم أكثر ما يقولون و ما يفعلون، و لا تعرف كيف تحمي فقيها في فقهه أو أديبا في أدبه أو فيلسوف في فلسفته أو مفكرا في فكره أو شاعرا في ملكوته أو عالما في معمله أو مجددا في تجديده . و لو قد أرادت الجماهير أن تفعل ذلك لما عرفت السبيل إليه و ذلك لأنه (( لا يمكن اشتقاق مجتمع مدني في مجتمع للعبيد )) كما قال المفكر ((توكفيل)). هذا، و حين وضع طه حسين عام 1938 م ، كتابه (( مستقبل الثقافة في مصر)) و اتخذ من المدرسة الحديثة مركزا له لم يكن يهجس بمواد مدرسية متراصفة منقطعة، غالبا عن أسئلة الحياة و حاجات البشر، إنما كان يوحد بين وظيفة المدرسة و مبدأ (( المفرد الإنساني الطليق)) مؤكدا أن المدرسة مكانا لتنشئة العقول و تحرر النفوس، بعيدا عن مدرسة تقليدية يدور تلميذها في ثنائية عقيمة طرفاها: التلقين و الاستظهار، يرتاح إليها ((أستاذ)) قمع بدوره قبل أن يصبح أستاذا. لقد أراد طه حسين في كتابه هذا أن يقطع مع مناهج مدرسة تقليدية، تقمع التلميذ و هي تعلمه، و تقمع في عقله الفضول المعرفي و الميل إلى المساءلة، كما لو كانت تعلمه الانصياع قبل غيره، و (( تقنعه)) بأن الانصياع فضيلة و بأن الفضول المعرفي تطاولا على ((أستاذه الحكيم )) و لهذا ساوى حسين بين المدرسة الحديثة و الثقافة المفيدة، التي تشعر الإنسان بحريته و تعترف بحقه في السؤال، و رافضا الفكرة البليدة التي تختصر التعليم في فعل عنوانه محاربة الأمية، ذلك أن التعليم الذي يغلق الفكر، يعيد بذلك تأسيس الجهل على (( قواعد متعلمة)) و لعل إرجاع التعليم إلى (( محاربة الأمية )) و التي هي شكل من التجهيل الممنهج هو الذي منع الجامعات العربية من الظفر بموقع بين الجامعات العالمية المرموقة، و هوما قال به د أنطوان زحلان في كتابه (( العلم و السيادة )) و واقع الأمر أن صاحب كتاب (( الأيام)) كان مشغولا دائما بفلسفة التعليم المفيد، لا بمحاربة الأمية، و مهجوسا بمدرسة من نوع جديد، تربط بين المعارف المدرسية و حاجات الإنسان اليومية، و بين المتعلمين و بناء مجتمع وطني يدعمه المتعلمون بوسائل عليمة وطنية، لذلك ساوى طه حسين بين مستقبل المدرسة و مستقبل الثقافة و بين مستقبل مصر و مستقبل المدرسة و الثقافة معا، و تصبح المدرسة الوطنية في هذا التصور، مجازا حداثيا متعدد المستويات يتضمن السياسة و الاقتصاد و علم الاجتماع، و يحتقب منظورا نقديا، يكشف عن السلبي الواجب رحيله، و يستقدم ما يدفع إلى التطور و الارتقاء. و هذا الكتاب(( مستقبل الثقافة في مصر)) كما سلف يقع في جزءين من 550 صفحة، بعد اتفاقية 1936 م التي أعادت فيها بريطانيا إلى مصر جزءا من استقلالها الخارجي و سيادتها الداخلية )). و استهل هذا المؤلف كتابه الهام و الضخم بمعاهدة 1926 م ، إذ أنها هي واقعة وطنية لها أهمية كبرى، و عملت عليها مباشرة واجب (( قادة الفكر)) و ((قادة الرأي)) ((نحو الشباب من المصريين)) و الشباب الجامعيين منهم خاصة، إذ جاء في الصفحة الأول:( و قد تحدثت إلى هؤلاء الشباب .... و استقر في نفسي أن واجبنا في ذات الثقافة و التعليم بعد الاستقلال أعظم خطرا و أشد تعقيدا مما تحدثت إليهم،..... و تنطوي الجملة السابقة على ثلاث إشارات: إظهار العلاقة بين دور التعليم و ترشيد الاستقلال الوطني، لأن استقلالا تقوده عقول جاهلة أشد سوءا من الاستعمار الذي سبقه . و الإيمان الواضح بدور قادة الرأي الذي قال به كتابه ((قادة الفكر)) سنة 1925 و تأكيد ((الشباب الجامعيين)) مرجعا أساسيا من مراجع مصر المزدهرة القادمة. اشتق طه حسين دور الشباب من دور التعليم، و اشتق ((جدوى الاستقلال الوطني )) من دور الطرفين معا، و مقتنعا لاقتناع كله بأن الاستقلال في ذاته لا يساوي شيئا كثيرا، فقد يكون شرا، إن استقر في يد قلة باغية فاسدة، و قد يأتي بالخير كل الخير، إن احتضنته سياسة وطنية تجمع بين التعليم و الديمقراطية الحقة، و قد ربط حسين بين التعليم و الثقافة و حاجات الاستقلال الوطني، و أكد أن الاستقلال في ذاته لا معنى له، إن لم يبن مجتمعا وطنيا متطورا، يستلهم تصورات (( المدرسة الحديثة )) ، بل إن هذا الاستقلال يمكن أن يكون عامل تأخر و تخلف، إن عجز أصحابه عن إدراك دلالته و معناه. إذ يقول في مطلع الفصل الأول (( إن الحرية و الاستقلال ليس غاية تقصد إليها الشعوب و تسعى إليها الأمم، و إنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منها و أبقى، و أشمل فائدة و أعم نفعا )). بل إنه يقول خلال الصفحة اللاحقة ( أنا أخاف أشد الخوف ألا نقدر تبعات هذا الاستقلال.... و أن يعود الاستقلال و الحرية علينا بالشر)). من أجل تجسيد معنى الاستقلال وضع طه حسين كتابه، معتبرا أن ((الأرقى و الأبقى)) لا يأتي إلا عن طريق تعليم حديث، و أضيف كما فعلت الدول الحديثة في تطورها بتعليم أبرزها في تقدمها الباهر و التأثير الكبير على شبابها و بلدها المتطور و المتقدم كثيرا، و بدورنا لنا مفكرين كبار في بلداننا يلزم أن نعمل بآرائهم و أفكارهم المتقدمة في هذا بكتبهم و وجهات نظرهم الفعالة و المتقدمة كما فعل الدكتور طه حسين من أجل وطنه و بلاده و وجهات نظره و أفكاره التي قد تحترم كثيرا بمصر الشقيقة و الدول العربية و غيرها ، لأن له أفكارا حية و متقدمة من أجل تقدمنا و تقدم البلدان و الدول الحديثة لترعى بشبابها و رجالاتها بنور وضاء و أجيال من رجالات الغد المشرق و المتطور بالبناءات المتقدمة لتعليم خلاق فاعل لبناء الأوطان على حبه و تغييره إلى الأفضل و الحياة الإنسانية السعيدة و الهنيئة .... ((إذ تشكل معارف الشباب الجامعيين )) في هذا التصور، حاجة وطنية، و قوة تصون الاستقلال الوطني و تصوب سبله و تترجم اجتماعيا، مقاصد ((قادة الفكر)) واقتراحاتهم . فالتعليم، كما الاستقلال، لا وجود له في ذاته لأنه قائم في الآثار الناتجة عنه في حقول الإبداع و السياسة و النماء الاجتماعي الحقيقي و المتقدم و المتطور، و هذه الآثار المنفتحة على المجتمع و الحياة، هي التي تجعل من التعليم ثقافة، و تنتج من المتعلم المثقف ( بالمكتبات في المدارس لقراءتها، كما كان ذلك من قبل في تعليمنا الثانوي خاصة، و غيره، و العمل من رجال التعليم لتحبيذ ذلك للتلاميذ و الطلبة و تشجيعهم على ذلك كثيرا) و بهذا ينقد و يقترح و يبادر، من وجهة نظر الحاجات الوطنية، على مبعدة من التلميذ التقليدي المكتفي ب((عقل كتبي)) يزهد بالقضايا العملية . هذا و يتكئ خطاب طه حسين عن التعليم و الثقافة على ثلاث مقدمات نظرية، تعترف الأولى منها بتبادلية العلاقة بين الاستقلال الوطني و الحداثة الاجتماعية،إذ لا استقلال بلا مشروع تعليمي ثقافي من نمط جديد، و لا معنى لوحدة. التعليم و الثقافة إلا في دوريهما في التحول الاجتماعي، الذي ينبذ التخلف و معاييره و يقترح أفقا مجتمعيا حديثا قابلا للتحقق و تقول الثانية بتكامل المقولات الحداثية، التي تتضمن الديمقراطية الفعلية و حكم القانون على الكل و حقوق الإنسان الحقيقية و نظاما سياسيا عادلا، يترجم عمليا، هذه المقولات جميعا. و تتضمن المقدمة الثالثة، التي ترد إلى المقدمتين السابقتين، وحدة الشعب و التعليم و الديمقراطية الفعلية، إذ الشعب ظاهرة سياسية ثقافية تتعين بانتماء وطني يتجاوز المراجع الدينية و الجهوية، و بحقوق دستورية تحفظ دور الشعب في اختيار النظام السياسي. لأن التعليم ضرورة تسعف الشعب على التمييز بين الحكم الفاسد و الحكم وفقا للقانون لأن الديمقراطية الأصيلة تكفل التساوي بين المواطنين و تضمن حقوقهم المشروعة كذلك. صاغ طه حسين في (( مستقبل الثقافة)) خطابا متسق العلاقات، يقرأ الظواهر جميعا من وجهة ((المواطن الكريم)) الواجب ((تعليمه))الذي يميز الذل من الكرامة و (( العلم الكاذب )) من المعرفة الموضوعية: و يقول في كتابه: (( و الرجل الذليل المهين لا يستطيع أن ينتج إلا ذلا و هوانا، و الرجل الذي تنشأ على الخنوع و الاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية و استقلالا)) واجه المؤلف الخنوع و الاستعباد و الحرية و الاستقلال، و واجه التجهيل بمعرفة نيرة و مستنيرة: (( و إذا كان هناك شر يجب أن نحمي منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب الذي يكتفي بظواهر الأشياء، و لا يتعمق حقائقها. فلننظر كيف نرد عن أجيال الشباب هذا الشر. و ليس إلى ذلك من سبيل، فيما أرى، إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساس متين (ص:7) و مع أن (( السيد العميد)) الذي كان أستاذا كذلك في المدرسة العليا للمسرح: يدير حديثا واسعا حول التعليم و إصلاحه، فهو يؤثر كلمة الثقافة على التعليم بما فيها من قوة توقظ الوعي و تصوبه، ذلك أن الهدف هو الإنسان المواطن، الذي له حقوق يجب أن يتبينها ، لا المدرسة في ذاتها، من حيث هي تلاميذ و إدارة و مدرسون. تأخذ المدرسة أو التعليم الديمقراطي، موقع ((الأمير)) في فلسفة ميكيافيلي السياسية، فكما أن الأمير قادر على توليد إمارة جديدة من إمارة غائبة )) فإن المدرسة قادرة على تحقيق المجتمع ( المصري) من جديد، شريطة أن تكون الديمقراطية علاقة داخلية فيها: (( إن كثرة المصريين لا تزال جاهلة (أنداك) جهلا مطلقا، و لا بد من أن تقوم الديمقراطية بتعليمها على النحو الملائم لأصول الديمقراطية و غايتها)) (ص:71)) أي كان ذلك في فترة حياته و تأليفه لهذا الكتاب القيم و الهام ــ إذ يحيل التعليم الديمقراطي على الشعب، بقدر ما يحيل الشعب المتعلم على ديمقراطية صحيحة: (( فالدعامة الصحيحة للحرية الصحيحة إنما هي التعليم الذي يشعر الفرد بواجبه و حقه المضمون، و بواجبات نظرائه و حقوقهم . و الذي يشيع في نفس الفرد هذا الشعور المدني الشريف، شعور التضامن (( الاجتماعي))، أو أن يقول حسين : (( إذا تعلم أبناء الشعب عرفوا ما لهم من حقوق في حياتهم الداخلية فلم يسمحوا لقلة مهما تكن أن تظلم الكثرة، و عرفوا ما لهم من حقوق في حياتهم الخارجية فلم يسمحوا لدولة مهما تكن أن تظلم مصر أو أن تستدلها )) و لهذا اخترقت صفحات كتابة جملة لها شكل الشعار: (( يجب تعليم الشعب كل الشعب، و يجب تعليم الشعب كل التعليم )). وضع حسين في خطابه نسقين من المفاهيم يتحدث الأول من كليهما عن: الشعب، الشعور المدني، الدستور و حقوق المواطن، الكرامة الوطنية، الكثرة الواجب تعليمها.... و يتحدث الثاني منهما عن: الرغبة، الوعي الزائف الشعور الفئوي، الضيق، الظلم، الاستعباد، التهديد الخارجي... و قد أوكل طه حسين إلى التعليم الديمقراطي إنجاز هذه الأغراض، و حول التعليم الديمقراطي إلى مشروع وطني اجتماعي و سياسي معا. و تكثف هذه المقولات فكرته الأساسية القائلة: لا يمكن استيلاد مجتمع مدني من مجتمع جاهل حرم من الحياة المدنية القائمة على وحدة الديمقراطية و حقوق الإنسان، حيث يحمل التعليم، الأقرب إلى الحلم، وظائف متعددة، يحرر الفرد من تصورات ضيقة ((جاهلة)) أملتها عليه سلطة القديم و استبداد العادات المتوارثة، و يمد الفرد بتصورات عقلانية لا تساوي بين ظواهر الأشياء و حقائقها، و يعرف الإنسان على معرفة إمكانياته، كي يتخلص من (( الإنسان الغفل)) الذي كأنه، و يصير كائنا بذاته، يقترح و يبادر و يرفض، لكن التعليم المتعدد الغايات، لا يرى، و لا يمكن أن يرى، بمعزل عن الحياة الديمقراطية. إذ يقول حسين : (( إن النظام الديمقراطي يجب أن يكفل لأبناء الشعب جميعا الحياة و الحرية و السلم . و ما أظن أن الديمقراطية تستطيع أن تكفل غرضا من هذه الأغراض للشعب إذا اقتصرت في تعميم التعليم الأولي و أخذ الناس به جميعا طوعا أو كرها )) (ص:94) اعتمادا على مبدأ تكامل العلاقات الحداثية يتساوى التعليم و النهوض الشعبي و الديمقراطية . و يتساوى التعليم و الديمقراطية و توليد الحاجات الوطنية . كما عهد طه حسين إلى التعليم الديمقراطي بتوليد مجتمع مدني حداثي الحاجات و الغايات و الوسائل، و طالب بإصلاح تعليمي شامل، أي مطالبا في التحديد الأخير، بإصلاح سياسي شامل، لأن المدرسة كما الأجهزة التعليمية عامة ، جهاز من أجهزة الدولة التربوية، يوائم بين (( مادة التعليم)) و مصالح السلطة الحاكمة . و لا بد من طرح السؤال الصعب هو من أين تأتي الدولة الديمقراطية الحقة و التي تشرف على تعليم ديمقراطي صحيح ؟ و يستهل طه حسين الفصل الثالث عشر من كتابه بالكلمات التالية : إلى الدولة التي وحدها يجب أن توكل شؤون التعليم كلها .... إلى أمد بعيد )) (ص:71) يرفع القول من شأن الدولة، شريطة التزامها بمشروع تربوي طويل الأمد، و شريطة أن تتعامل معه بالجد و الحزم، ذلك أن (( الدولة )) وحدها هي التي تستطيع أن تضع المنهج و البرامج، و أن تلاحظ ذلك ملاحظة دقيقة .... إذ دخل حسين إلى مشروعه من باب المسؤولية الوطنية، الذي يتمتع به ((قادة الفكر)) و من باب (( الرهان)) الذي طرقه ميكيافيلي و هو يبحث عن (( إمارة جديدة)) بل إنه دخل إليه مدفوعا بقوة الواقع المشخص، حيث للدولة من القوة ما يتجاوز كثيرا قوة (( القلة المتعلمة من المصريين، و هي لا تعدو العشرين في المائة)) (آنذاك) و التي تلقت أشكالا مختلفة من التعليم، تنوس بين التعليم الرسمي المدني ، التعليم الأجنبي، و التعليم الديني، و تمنع عنها التجانس و الفاعلية المنشودة . و سواء عهد حسن بمشروعه الكبير و الجيد إلى الدولة أو إلى حلم طوباوي تتلامع في آفاقه الثورة الفرنسية. فقد كان مشروعه سياسيا بامتياز كان في شعاره : (( لا تعليم بلا ديمقراطية و لا ديمقراطية بلا تعليم )) دعوة إلى دولة من نمط جديد فلا يحفل بتعليم الشعب إلا دولة انبثقت من إرادته، و لا يعرف الشعب ما يريد إلا إذا أرشده التعليم الديمقراطي إلى ما يريد . لذلك يتضح الشعار، في الحالين، عن أولوية النظام السياسي على النظام التعليمي، لأن النظام المستبد لا ينتج إلا مدرسة على صورته ، و عن أولوية الوعي الاجتماعي على النظام السياسي، تلك الأولوية التي اجتهد طه حسين في سبيلها. و أوكل تحققها إلى المستقبل .... و قد نسأل مرة أخرى: ماهي الأهداف المتوقعة من عروة وثقى بين التعليم (الثقافة) و الديمقراطية ؟ الجواب واضح، إذ هناك إنسانية الإنسان و حقوقه كمواطن في وطن يتمتع بالسلم الاجتماعي و الكرامة الذاتية. إذ يقول الفيلسوف و المفكر روسو في ((العقد الاجتماعي )) الذي ألم به حسين إلماما شديدا (( نحن لا نبدأ حقا في أن نصير بشرا إلا بعد أن نكون مواطنين)، ذلك أن حقوق المواطنة تفضي إلى وعي وطني جماعي، يأتي به التعليم الديمقراطي، و بعده بالتماسك و يؤمن له الوحدة، بعيدا عن أشكال شائهة من الوعي، تساوي بين الوطن و البيئة الاجتماعية المحدودة. أو تختزل الانتماء الوطني في هوية دينية، لا ينقصها ((الانغلاق))، لهذا تحدث حسين عن (( العقلية المصرية التي تلائم الحاجة الوطنية))، و هاجم أشكال التعليم التي تبذل الفرقة و الشقاق، و التمس من الدولة تعليما موحدا ديمقراطيا و جملة الأمر أن الدولة يجب أن تشرف على المدارس الأجنبية .... فتكفل لأبنائها الذين يدخلون هذه المدارس الوطنية من التعليم الصحيح، للغة القومية، و التاريخ القومي، و الجغرافية القومية، و الدين القويم ((ص:82ـ85)) و المقصود في هذا كله تولد الوعي الوطني المتجانس عن طريق مناهج التعليم الديمقراطي، الذي يتجاوز الفروق الطبقية و اختلاف الأقاليم و تنوع المراجع الدينية . لا يأتي التصور الديمقراطي للتعليم على المواضيع المصرية، إلا و يضيف إليها طه حسين نعت (( الوطنية)): الحاجة الوطنية، الشخصية الوطنية، التاريخ الوطني، التربية الوطنية، حماية الوطن .... بيد أن هذا الوطن، الذي يحتمل أوصافا كثيرة لا وجود له إلا بأفراد يحققون فيه كرامتهم الداخلية و الخارجية، فالوطن في التحديد الأخير لا ينفصل عن حاجات المواطن، التي تقنع الإنسان بالموت في سبيله، أو تدفعه إلى البحث عن الهجرة بحثا عنيفا، لا رفق فيه ولا لين بلغة طه حسين . و مع أن خطاب حسين وطني المبتدأ و النهاية، و يجمع بين التعليم و السياسة و الديمقراطية، فهو لا يغفل دور الثقافة الإنسانية. إن لم ير في الانفتاح عليها واجبا وطنيا أيضا . هكذا، نرى ما أكثر حديثا عن مجد العرب الأولين حين أقبلوا في شره رائع جدا على أثار الأمم المتحضرة فنقلوها إلى لغتهم، و مزجوها بتراثهم، و غذوا بها عقولهم و قلوبهم، و كونوا منها حضارتهم)) إذ ليس الانفتاح على الثقافة العالمية إلا تعبيرا عن المنظور الديمقراطي لطه حسين، ذلك أن الوعي الديمقراطي يختفي بالمتعدد، و ينأى عن الواحد المكتفي بذاته، الذي هو من نصيب العقول المستبدة . و مع أن طه حسين حاذر في خطابه الطويل الحديث عن الثورة أو ما يشبهها، فقد كان فيه دعوة إلى ((ثورة ثقافية )) تستأنس بأمجاد (( مصر الخالدة)) و بدورها في حماية (( الثقافة اليونانية)) و تستأنس بالخبرة التعليمية الفرنسية، آنذاك التي ترجمت تعاليم الثورة الفرنسية التي أسست لدولة وطنية جديدة . و هكذا فربما يكون حلمه، المشبع بثقافية كونية، قد دفع به إلى شيء من القياس السريع و الكثير من الرهان دون أن يخدش هذا ((كتابه)) أو أن يبطل راهنيته، فكتاب (( مستقبل الثقافة في مصر)) لا يزال المشروع التنويري الاجتماعي، الأكثر تماسكا و تفصيلا و منطقية من بين جميع المشاريع التي اقترحها المثقفون العرب، في القرن العشرين، إن لم يكن الوحيد، الجدير بتعبير المشروع الوطني الثقافي، و هذا ألمح إليه المفكر المغربي و العربي المتألق عبد الله العروي، الوطني الكبير و الغيور و الأكثر نباهة في ((أوراقه)) مع طه حسين المرحوم برحمة الله الواسعة مع النبيئين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا. و قد أراد حسين بذلك أن يشتق من التعليم ثورة ديمقراطية غيورة مجددا و متقدما كذلك و مستأنفا لجهود تنويرية لعدد من المثقفين و المفكرين سبقوه أو عاشوا في عصره، و قدموا للأجيال كلها عددا من الخبرات و من الجهود العليمة و التنويرية العربية في التعليم عموما و الفكر خصوصا لكي تعمل بها الدول العربية و الإسلامية و الإنسانية كافة في دولها و بلدانها ليعلو شأنها، و تبتعد عن الأوبئة و الحروب القاتلة و غيرها من الأضرار بفضل تقدم تعليمها و علومها مع الأمم التي تحظى بالعناية البالغة بالإنسان و الإنسانية المتطلعة إلى أفق متقدم و سائرا إلى الأمام بتعليم متطور يبني الإنسان و يحضره أكثر في أي بقعة من الكون يكون .... كما نتمنى من أعماقنا و خوالجنا منذ مدة السبعينيات خاصة و قبل ذلك كما فعل المفكر الكبير و الفيلسوف محمد عابد الجابري المرحوم برحمة الله الواسعة و إلى الآن أن يعمل وطننا الحبيب ببعض الأفكار الوطنية و التعليمية منها الأوراق التي تلاها ( و هو رئيس لجنة) عميد الأدب المغربي المفكر و الإنسان و العلامة المبرز عباس الجيراري المستشار لجلالة الملك المفدى محمد السادس حفظه الله و رعاه، و دعاؤنا له بالصحة و العافية و طول العمر . و ذلك لما تلى تلك الأوراق و الأفكار المتطلعة لتقدم التعليم بوطننا العزيز خلال المناظرة الكبرى و الهامة في تاريخ المغرب الحديث و التي قام بها و يشارك فيها كل من اتحاد كتاب المغرب العتيد آنذاك و المأسوف عليه حاليا ــ و نقابة التعليم العالي بالمغرب خلال أيام ثلاثة في شهر يناير سنة 1971 بحضور ممثلي طلبة المغرب و المشاركين بدورهم فيها ــ الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ــ و الاتحاد العام لطلبة المغرب ــ و فصيل الطلبة الجبهاويين ـ و عبد ربه ببعض تدخلاتي الغيورة و الوطنية فيها و تدخلات بعض المفكرين و الدكاترة العديدين و الزعماء الوطنيين و النقابيين و بعض ممثلي المتدخلين من الطلبة الذين قاموا بتدخلاتهم الملحة بأفكار جريئة و هامة لإصلاح التعليم آنذاك بحدة و غيرة كبيرة كما فعلوا في مناظرات إفران التاريخية عن التعليم بالمغرب بحضور و رئاسة العاهل المغربي الكبير جلالة الملك الراحل الحسن الثاني قدس الله روحه و خلد في الصالحات ذكراه ــ و كما فعل الزعيم الكبير أستاذي الكريم علال الفاسي الوطني الغيور، و عدد كبير من المتدخلين ــ في ندوة نقابة التعليم العالي و اتحاد كتاب المغرب برئاسة الأديب الكبير المرحوم عبد الكريم غلاب كما سلف الذكر ــ من أساتذة التعليم العالي و الجامعي و غيرهم، و كما أشار كذلك خلال الشهور الأخيرة الماضية الدكتور الجليل عباس الجيراري و المفكر العزيز عباس الجيراري في حواره المتقدم و المتسلسل بجريدة " أخبار اليوم " العتيدة و المتبصرة بآرائه المتطلعة و العديدة من أجل العمل بها لتقدم و تطوير تعليمنا و تنوير طلبتنا و مجتمعنا بما جد به ، كما أن بلادنا فيها رجالات آخرين لنعمل بما يدلون به من آراء و مستجدات لتطوير تعليمنا، كما ألف بذلك عن هذا الدكتور الجليل و المستنير و العالم اللغوي في حقل التعليم و الفكر عبد القادر الفاسي الفهري بكتب هامة و أساسية في اللغة و التعليم ككتابه الجديد " العدالة اللغوية و النظامة و التخطيط " و غيرهم من الدراسات و الكتب لتطوير التعليم ببلدنا و هو قد كان عضوا للجنة الملكية الخاصة لإصلاح نظام التربية و التكوين بالمغرب لسنة 1999 م إلى سنة 2003 ، و مع الأسف الشديد لم يبق لهذه اللجنة كما ذكر، و غيرهم من الدراسات لحملة أقلام مفكرة لمستقبل باهر لوطننا و أوطان بلدان عربية أخرى و مفيدة كثيرة لتقدم الإنسان و الإنسانية كافة كما أشار إلى ذلك كما سلف الذكر الغيور و المفكر و الأديب طه حسين المجدد مع هذه الثلة من المفكرين و المصلحين و الصلحاء في الفكر المستنير الذي ينير العقول و يقدم الأمم لتصبح في أعلى عليين بآرائهم و أفكارهم المتطورة بروح و ثابة نحو التقدم المطرد للإنسان و الإنسانية عامة ... و للذكر و التاريخ، فقد أتم طه حسين كتابه هذا في شهر يوليوز سنة 1938م بقرية فرنسية تسمى مورزين، و كان يدعو و يتمنى لمصر الحبيبة أن يغيب عنها الجهل و يظللها العلم و المعرفة الخلاقة و تشمل الثقافة لأهلها جميعا، و لهذا فإن طريق الأحلام معبد بالكوابيس، و دائما فإن المثقفين الكبار يعيشون بأحلامهم متطلعين إلى عالم أفضل بدون حروب أو كوارث و ضحايا زاهدين في حياتهم الفانية مضحين بالغالي و النفيس من أجل عيش كريم لكل إنسان بتحقيق لكل حقوقه كيفما كان أو في أي مكان من الكرة الأرضية يعيش . و حبذا لو كانت كل الدول العربية و الإسلامية تنفذ و تعمل بمثل هاته الاقتراحات و الأفكار النيرة. لمثل هؤلاء المفكرين و العظماء بل كل الشعوب و الأمم لتحمي شعوبها من الكوابيس و الحروب و الفتن و الفقر ليعيش الكل في أمن و أمان و سلام و حياة رغيدة و صحة جيدة و عيش كريم ... القصر الكبير في 08/10/2020 بقلم : عبد القادر أحمد بن قدور التوقيع : " الحقوقي و الأديب و الإعلامي " و العضو الشرفي بمنظمة العفو الدولية ــ فرع المغرب ــ و أتحمل المسؤولية كلها لوحدي عن كل ما ذكر

نبذة عن الكاتب

نشرت بواسطة kamachin على الثلاثاء, أكتوبر 20, 2020. تحت سمات , . يمكنك متابعة الردود على هذا الموضوع من خلال الدخول RSS 2.0. لا تتردد في ترك ردا على

By kamachin on الثلاثاء, أكتوبر 20, 2020. تحت وسم , . تابع اخبارنا على RSS 2.0. اترك رد على الموضوع

0 التعليقات for "" زمن و فكر طه حسين و بعض آرائه: و آراء مفكرين بالمغرب في التعليم الأمثل، و الحياة""

اترك الرد