نشرت في:
نشرت بواسطت kamachin
الشاعر الكبير أحمد الطود : مرثيتان
الشاعر الكبير أحمد الطود :
مرثيتان
من يطالع قصيدة )مرثيتان(
للشاعر الكبير أحمد الطود في رثاء رفيق دربه الأديب الراحل محمد
الأمين أبو أحمد ، لا بد وأن يقف عند ملمح كبير يتعدى خصال الوفاء للآخر، والقدرة
على تعداد المحاسن ، إلى مدى قدرة القصيدة العربية على أن تكون حاضنة لأجناس
أدبية تتخطى المألوف من وصف ،ورثاء ومدح ....إلى أن تغدو سيرة غيرية!!!
ولعل الشاعر المجد أحمد الطود
قد أفلح في )مرثيتان( وهو يتغلغل وصفا في
نفسية الفقيد الذي في صوته طائران : الحب والحزن ، ملخصا في ذلك
تقلب النفس الإنسانية ، وقدرتها على منح شحنة الحب لمن تستكين إليه
، والخلود للحزن حين تتكدر الرؤية ، لكن دون تجاوز ذلك إلى عتبة
الكراهية التي لا تجد لها موطئا في ذات الراحل.
ويتساءل شاعرنا : لماذا الرحيل وحيدا في
ظلمة القبر ؟ علما أنه يعي كون مثل هذه (الرحلات) لا تكون إلا بصيغة المفرد !!! لكنه أشار إلى ذلك لتبيان ألم الفراق والفقد وهو يتألم من
أن يسافر صفيه وحيدا بعد صداقة عمرت ربع قرن تأرجحت بين الاتفاق والاختلاف.
ويا ما حلَمنا.. حزِنَّا.. فرِحْنَا
ويا ما اتفقْنا
ويا ما اختلفْنا
الشاعر
الطود تقاسم حب الحياة مع محمد الأمين أبو أحمد لدرجة إحساسه بخيانة الحياة
لصديقه الذي كان لطيف العنف ،عنيف اللطف ، جميلا كابتسامة ،ولذيذا كالأمل.....لكنه
تأفف من زمن تتمكيَجُ فيه الخيانةُ بالوطنيَّةِ ،وتتفسَّخُ فيه المفَاهِيمُ وتَتَلوَّنُ فيهِ العلاقاتُ وتتآمرُ
فيهِ عليْكَ الكلابُ/ القِحابُ/ اللصوصُ....في مثل هذا الزمان يتساءل شاعرنا :
في مثل هذَا الزمَانِ
أرانِيَ لا أشْتَهي أن أعيشَ
إذَا لم أكنْ قادراً أنْ أموتْ
لقد فاق الحزن قدرة الشاعر على التحمل ، وكل ما قاله في حق صديقه
وحق نفسه غير كاف ،ويبقى الصمت وحده لغة قادرة على ترجمة ما يعتمل بنفسه المكلومة
:
.....وإنّي
لبالصَّمتِ أفصحُ منِّيَ بالكلماتْ
الشاعر الكبير أحمد الطود :
مرثيتان
إلى القاص الشاب محمد الأمين أبو أحمد
في رحمة الله
.................................
فـإنْ كـنـتَ لا تـسـطـيـعُ دفـعَ مـنـيَّـتـي
.................................
فـإنْ كـنـتَ لا تـسـطـيـعُ دفـعَ مـنـيَّـتـي
فذرني أبادرْها بمَا ملكـت يدي
طرفة بن العبد
................................
................................
وما ملكتْ يدهُ
سوى حُلمِهِ والدُّخانْ
ولكنَّ في صوتِه طائريْنِ
همُا الحبُّ والحزْنُ ينسجمَانْ
وفي ناظريهِ دموعٌ خجولهْ
تغالبُ صبْر الرُّجُولَهْ
وفي صمته عنفوان
أسمِّيهِ رحلةَ شوقٍ إلى المستحيلْ
وأمنحُهُ مِن حرارةِ قَلبيَ زاداً
ومِنْ عينِ عيني ماءً
وأسألهُ في الودَاعِ: لماذا الرحيلْ
وحيداً إلى ظلمةِ القبرِ..
يا مَنْ مِراراً تألمتَ من أن تسافر وحدَكْ
أسمٍّيهِ نجماً سريعَ الأفولْ
بَدا في سماءِ الظلاَمِ الثقيلْ
ولكنّه الآنَ موتٌ
يثيرُ الذهولَ.. ويا لو أفَاد الذُّهولْ
***
سأذكُرُ..
ماذا سأذكرُ؟
عمرُ صداقتِنا ربعُ قرنٍ
فكمْ لعبةٍ قد لعبنا صغاراً
وكم من كتابٍ قرأنا كباراً
وكم في سماء الخيال سبحنا
ويا ما حلَمنا.. حزِنَّا.. فرِحْنَا
ويا ما اتفقْنا
ويا ما اختلفْنا
وكانتْ مودتنا الصادِقَهْ
سلاحاً حملنَاه في الأزماتْ
سأذكرُ أنَّك علمتَنا كيفَ نخشَعُ بالأغنياتْ
وأنكَ أوُّل قرَّاءِ شعْري
وأنك أسستَ أزهى خلايَا الثَّقافةِ..
في القصرِ(1) .. قلْ لي:
لماذَا شجاعاً وقفتَ لتُلقي محاضرةً
وارتبكْتَ أمَام فتاةْ
سأذكرُ أنَّك كنت تحبُّ الحياةْ
وخانتْك هذي الحياةْ
وقلْ لي:
لماذا تموتُ؟
هل الموتُ كانَ طريقَ النجاةْ؟
وكيفَ تموتُ؟
وأقسَى من الموْتِ أن تتحوَّل أنتَ
إلى ذكرياتْ
فكيفَ أُتَرجمُ حُزني
إذَا كانَ أكْبَر مِنّي
وإنّي
لبالصَّمتِ أفصحُ منِّيَ بالكلماتْ.
***
كانَ عاديًّا
تخطَّى عامهُ الثاني منْ بعد الثلاثينَ
لهُ عاداتُهُ الخاصَّةُ :
يحسُو قهوةَ الصبْح زوالاً
وعلى كرسيِّ مقهاهُ تَراهُ
غَرقتْ عيناهُ بحثاً في كتابٍ أو جرِيدهْ
كان عاديًّا.. يحبُّ البسطاءْ
ويحيِّي النَّاس في لطْفٍ
ويرتاحُ إذا أسمعتَهُ شعراً جميلاً
وغناءً عاطفيًّا
وإذا أزعَجَه شخصٌ ثقيلُ الظلِّ..
لا يخجلُ أنْ ينْقدَ مبناهُ ومعناهُ
ولا يكرهُ إلا مَنْ بنى مجْداً من الرشوةِ
أو ذاكَ الذي ألجأَهُ الجهْلُ
إلى أنْ يدَّعِى العلمَ
وقد يصمتُ.. أو يُصدِرُ تعليقا فكاهيًّا
إذا احتَدَّ نقاشٌ تافهُ المضمُونِ
هل كانَ لطيفَ العنفِ
أمْ كَانَ عنيفَ اللطْفِ
لا أدْري.. وأدرِي أنَّه كانَ جميلاً كابتسامهْ
ولذيذاً كالأمَلْ.
***
هل أنَا أبكيهِ؟
مذُ كنتُ صغيراً علَّموني:
رجلٌ أنتَ فلا تبكِ..
وآهٍ ظلموني.
***
كان لا يعرفُ منْ بيْن لغاتِ الناسِ
إلا لغة الصدْقِ
له صوتُ نبيِّ حينَ لا يفهمهُ الناسُ
جديدٌ كل يومٍ
وكريمٌ ينتشي من لذَّةِ الإنفاقِ
لا يشحنُ بالإسمنتِ والآجرِّ قلبَهْ
ولهُ أكثرُ منْ قصةِ حبِّ فاشلٍ
يحتاجُ أحيَانَا لأَنْ يخلقَ وقتاً داخلَ الوَقتِ
ولا يفرحُ إلاَّ
حينما تجمعهُ جلسةُ وُدٍ
مع إخوانِ الصَّفاءْ
لستُ أبكيهِ
فهذَا زمنٌ
يغْبط الأشرافُ موتاهُمْ
على موتهمُو فيهِ
وقد عزَّ العَزَاءْ
***
ففي زمنٍ
تتمكيَجُ فيه الخيانةُ بالوطنيَّةِ
حيثُ تصيرُ العمالةُ فخْراً
وكلُّ الهزائمِ بالزَّيفِ نصْراً
وتغدُو العهارةُ مهنةَ أرْقَى البيُوتْ
***
وفي زمن ٍ
تتفسَّخُ فيه المفَاهِيمُ
فالرَّفْضُ شاءَ المسيرَ بدرب السلامةِ
والغضبُ اختار صفَّ الرُّكُوعِ
وحريةُ الرأْي في السِّجنِ شاهدةٌ
أن حريَّة الرأي مضمونةٌ
والرفيقُ/ المناضلُ
ما عادَ يهتمُّ إلا بأجْرٍ غَليظٍ
من البنكنُوتْ
***
وفي زمنٍ
تَتَلوَّنُ فيهِ العلاقاتُ
حيثُ الصداقةُ منفعةٌ ثم غدرٌ
وحيثُ الحبِيبَةُ
لا تتردَّدُ أنْ تسحبَ الحبَّ
إذ تتأكَّدُ منْ أنَّ جيبَكَ
ما فيهِ غيرُ الخَوَاءِ الذي يملأُ الرُّوحَ منْها
وحيثُ البطولةُ في النصْبِ
والصدقُ شيءٌ مَقيتْ
***
وفي زمنٍ
تستبيحكَ فيهٍ المذَلَّةُ
والناسُ للرعْبِ في نفسهِمْ ملكُوتْ
***
وفي زمنٍ
يستبدُّ به الظلْمُ
حيثُ المحاكمُ قد علَّقتْ آيةَ العدْلِ
خَلْفَ القضاةِ الَّذينَ إذا حكَمُوا
أكَّدوا أنَّ أوْهَى البيُوتِ الَّذي فيهِ
قدْ أوَت العنكَبُوتْ
***
وفي زمنٍ
تتآمرُ فيهِ عليْكَ الكلابُ/ القِحابُ/ اللصوصُ
وحتى الأماني الَّتي طالمَا أعتَقتْكَ لحينٍ
من الذُّل والخوْفِ
في مثل هذَا الزمَانِ
أرانِيَ لا أشْتَهي أن أعيشَ
إذَا لم أكنْ قادراً أنْ أموتْ