نشرت في:
نشرت بواسطت kamachin
خصائص السرد القصصي عند قصاصي مدينة القصر الكبير: القاص عبد الواحد الزفري القصة القصيرة (بارانويا )نموذجا
إشراقات
سردية...
ذ// الميلودي الوريدي
خصائص
السرد القصصي عند قصاصي مدينة القصر الكبير:
القاص عبد الواحد الزفري
القصة القصيرة (بارانويا )نموذجا
استهلال لا بد منه :
لا يخلو الأدب القصراوي(النسبة لمدينة
القصر الكبير ) , بأجناسه المختلفة ومقاصده المتنوعة , من دُرَر وجواهر,اكتنزها
مؤلفوها , وتناساها النقاد عنوة , أو عن غير
قصد .أو لربما عملا بمقولة (كم حاجة
قضيناها بتركها )..ولكننا ومن منطلق الأمانة العلمية
وواجب التأريخ الأدبي , ارتأينا جلاء ما
اعترى هذه الدرر من نسيان عبر مقالات تحليلية
ونقدية ,تكون هذه
أولاهن , وليست آخرهن ,تكريما لمجهودات كتابها ,وإحقاقا لحقهم علينا كَمَعْنِيين بالشأن الثقافي
والأدبي في هذه المدينة المعطاء. وأيضا
استشرافا لأشكالها المتعددة ,وخصائصها الجمالية والفنية المتفردة بنية ومحمولا ...
مدخل
تميز البحث في
القصة –كما في الرواية – بمقاربته لعالم مرتكز على ما هو فني وما هو دلالي
,لارتباطه الوثيق بجنس أدبي يختص بالدرجة الأولى في رصد عالم الإنسان ,وكشف أسراره
,وانفعالاته العاطفية , وامتداداتها المتنوعة . متوسل في ذالك بوسائط جمالية ,
وفنية تفرضها مُدْرجات سلطة السرد , وتمظهرات
فعل التخييل ,لتشكل مرجعية نصية ممكنة
التحقق,تبعا لقدرة الكاتب التخييلية أولا , ومدى تحكمه في بناء العلامات
الدلالية للنص ثانيا ..
وما دامت القصة
والرواية حسب ما أسلفنا عالما فنيا ,وتشكيلا دلاليا تحكمه العلامات النصية ,
فالتعامل معه يقتضي بالضرورة الاحتكام إلى نظرية التـأويل والتلقي , باعتبارالتأويل
نظرية للمعنى المتعدد , والمحتمل , والمنفتح على تعدد الأنساق الدلالية , وبكون
التلقي نظرية تعتمد ردود أفعال القارئ اتجاه النص , وفهمه وقراءته .
ومن هذا المنطلق ,فقد
ارتأينا مقاربة النص السردي من خلال البحث في مجمل الخصائص التي تجعل منه نصا
أدبيا ,أي خاصية "الأدبية " محايثين للنص دون التعرض إلى علاقته مع ما
هو خارجي عنه , كحياة الكاتب , أوظروفه –النص – الإقتصادية ,والإجتماعية ,إلا فيما
اقتضته ظروف بيان أدبيته.وبمعنى آخر متوسلين إلى النهج التزامني ( السانكروني ) السكوني ..في النظر إليه كبنية
علائقية راصدة -وفي نفس الوقت- مسكونة
بتزامنات التضاد , والمفارقة , وتعدد المصائر, وتشابهها , وجدليات الزمان
والمكان , وإيحاءات الرموز , وبوصفه أيضا تشكيلا جماليا , وأسلوبيا لنقل الرؤية
بأدوات وتقنيات مخصوصة , تُكون اللغة قطبها الأساسي لانفتاح النص على عوالمه,
وركيزتها المؤثرة في بناء السياق ...
مقاربة العنوان
(بارانويا):
والبارانويا
كاصطلاح ,هي حالة مرضية ذهنية تتميز باعتقاد باطل,و راسخ يتشبث به المريض بالرغم
من سخافته , وقيام الدلائل ببطلانه. أو هي اضطراب عقلي نادر ينمو بشكل تدريجي ,
حتى يصير مزمنا , ويتضمن هذاءات الاضطهاد , والشك , والارتياب , فيفسر المريض
أعمال الآخرين بأنها انتقاص أو ازدراء له ويتصرف على هذا الأساس تصرفات تنم عن
عظمته ..
نحن هنا أمام
عنوان مشتت, و مشوش ,من حيث التركيب اللغوي لا يشكل عتبة تناصية , ولا إيحائية
مفيدة لاستكشاف دلالات النص,ولكنه متميز من حيث كونه محدد كمصطلح علمي, يحمل بعدا
علاماتيا قويا ذا محمول دلالي عالي
الرمزية ,خصوصا وأنه ككلمة واحدة لا يمكن
اعتبارها قضية إسنادية ,حتى لو حاولنا تقدير المضمر . وهنا أستحضر عنوانا لرواية
الكتب المصري محمد رضا عبد الله (حالة بارانويا) ,وهو أيضا عنوان رمزي متعدد
المفاتيح بالرغم من تخصيصه بلفظ (حالة),وبتعلقه بمسند إليه مضمريمكن تقديره ب(هي).. ولكن واستحضارا
لمقولة (جيرار جينيت) في إشكالية العنونة :"ذالك أن الجهاز العنواني....هو في
الغالب مجموعة شبه مركبة ,أكثر من كونها عنصرا حقيقيا , وذات تركيبية لا تمس
بالضبط طولها.." يمكننا بالتأكيد أن نلامس البعد الدلالي
ل"بارانويا" بعيدا عن مقياس الطول ,وبالتالي النظر إليه من الناحية وظيفته
,فهو يتقمص هنا :1- وظيفة (الإغراء) ,وغموضه يؤدي حتما إلى استحضار تمثلات متعددة
لدى القارئ ,مما يجعله يرجو التخلص من كمية التمثلات هذه ويحاول اختزالها ,ولا يجد
سبيلا إلى ذالك غير استقراء النص,لإرضاء فضوله ....
2- وظيفة الإيحاء
: ووظيفته هذه مستمدة من تناص يستحضر
ترابطا مفهوميا بين الخطاب الأدبي والخطاب العلمي, ويستدعي جملة تحولات
لمتتاليات ورموز مأخوذة من نصوص أخرى , وهو بذالك يصبح علامة للطريقة التي سيقرأ
بها النص ..
3- وظيفة الوصف:
رغم أن وصفيته ليست مباشرة , إلا أنها ضمنية تحيل على وجود أو حضور الحالة المرضية
إن على المستوى الفردي لدى شخصية من الشخصيات الرئيسية ,أو على المستوى الجماعي
بحضورها لدى كل أو غالبية الشخوص ..
4- وظيفة التعيين
: ويتكفل العنوان فيها بتسمية مرجعية النص كمقاربة نفسية تحليلية لحالة مرضية
وذهنية ..
ونلاحظ هنا أنها
الوظائف الأربعة للعنوان وسيميائيته لدى" جيرا جينيت"..
مقاربة النص:
( في غير
فراشي استفقت ذاك الصباح، أحسست ساعتها برأسي ملفوفا في وسادة أسطوانية ناعمة،)
من أول جملة في الخطاب السردي , نكتشف أننا في
مكان رمزي وغير محدد جغرافيا , وبالمقابل
نحن في زمن تحدده الأفعال (الماضية ) " استفقت ..أحسست .." لأن الفعل
السردي هو جوهر العملية السردية , وأهميته
تكمن في حمله للبعد الزمني , (وهو هنا الزمن الماضي) .وبما أننا أمام متن حكائي
يفترض فيه نقل
الحكاية " كما يفترض أنها حدثت في الواقع أي بمراعاة منطقي التتابع
والتراتب" ,فإننا لا نستبعد أن نجد
أنفسنا في مواجهة المبنى الحكائي ,المتعارض مع المتن ,من حيث التزامه بالاحداث
نفسها لكن بمراعاة نظام ظهورها في الأثر ..أي أن الأحداث تعرض دون اعتبار زمني أو
مراعاة لأي تتابع سببي داخلي ..ذالك أن المبنى يؤسس لعالم مُتَخَيَّل يكسر كل أنماط
السببية والمنطقية ...
وتتكلف اللغة بعد
ذالك بتأثيث المبنى السردي ملازمة لضمير المتكلم السارد ,وهي هنا لغة خاصة ومميزة
,إن على صعيد اللفظ أو على صعيد المحمول والدلالة ..تمتح من قواميس الأثر التاريخي
واصفة ,مشبِّهة,متخيِّلة لمكان لفظي صنعته اللغة ,له مقوماته الرمزية وأبعاده
المتميزة . (قصر هارون الرشيد ) نألفه كأننا فيه ,أو مررنا به ,بل نألف شخوصة
الحاضرةٍ/ الغائبة قيان هارون وجواريه , عاداته , وطقوس حياته اليومية ..بذخه ,
مجونه ..تأخذ اللغة بنواصينا ,تحطم شكنا ,تزرع اليقين فينا ,فنتخلص من حضور تمثلات
العنوان (بارانويا ),ثم لا يلبث القاص أن يعيدنا من عالم التخيل إلى عالم الواقع
عبر حوار داخلي, كاسر ل"مونوطونية السرد " بسلاسة مقتدر متحكم في آليات
الإنتقال من وصف خارجي إلى وصف انفعالي داخلي :[ لم أعد
أحتمل المزيد من هذه "الهلوسات" التي لا يقبلها عقل إنسان، - وإن كان
أخرقا -. كيف أصدق ذلك؟ أيمكنني أن أتحول بين ليلة وصباحها من نزيل بمستشفى، إلى
فخامة"هارون الرشيد" - بجلالة قدره – دفعة واحدة؟ا. أقمتُ برحلة عبر
الزمان كما يقولون دون علم مني؟]
نعرف الآن أن القاص يتلاعب
بنا ,ولكننا لا نلبث أن نعود إلى تصديقه ..نعرف أن شيئا ما غير طبيعي لكننا لا
نعرف ماهيته ... يحضر حاجب هارون "الفضل بن الربيع" وندمائه
"العباس " وابن أبي مريم المدني " و "الخزاعي" ..فنرجع
إلى قصر هارون مكرهين ,لكنه إكراه محبب إلى النفس . يثق السارد قبلنا بأنه هارون
,يتأكد بوجود خاتم الخلافة في أصبعه ,فنتخلص نحن أيضا من بذور الشك التي ألقاها في
أنفسنا وفي عقولنا ..ثم لا نلبث أن نعود إلى اجترار شكنا في انتظار اليقين مع صيحة
القاص :[- أنا أحمد الجبلي ورقم بطاقتي :117974 ج و اقطن في حي الأندلس بمدينة
القصر الكبير المغربية ,فمن أنتم؟] هنا نصل إلى لحظة الإشراق والكشف ,بحضور الطبيب
البريطاني المعالج , وهو يثني على الممثلين الذين شاركوا في التجربة العلاجية التي
خضع لها بطل القصة المريض بالبارانويا ...ثم تأتي النهاية الواضحة [ بكيت حتى تطاير دمعي في وجهه، وفي أذنه وشوشت :
- بالله عليك يا دكتور، إن كنت
قد شفيت من "هارون" فإني لم أشف بعد من جواريه، ألا يمكنني الاحتفاظ
بشخصيته، ولو لليلة واحدة ؟.
أجابني:
] -"
game over".
ملاحظات عامة :
قد تتفاوت القدرة على السرد من قاص إلى آخر , وقد يتفاوت أيضا
نصيبهم من إتقان فن الحكي أو عدمه ..ولكننا مع عبد الواحد الزفري خبرنا طاقة سردية
قوامها الحنكة , الحنكة في الوصف والحكي,
والإنتقال السلس بين الأحداث والآليات . ثم خبرنا القدرة , على النسج
والتأثيث والتخييل والجذب والإمتاع . وأيضا خبرنا الصنعة ,في اختيار اللغة الوصفية
القارئة لرؤية العين الثاقبة اللاقطة والدقيقة ,في مشاهد الوصف من غير إسفاف ولا
مباشَرة , واللغة الدرامية في تأثيث
الحوار الخارجي والداخلي ,في التضرع إلى السجع ,وفي التخلي عنه , ثم في بناء
البداية بتوليفة (سردية – فانطاستيكية) وفي الحبكة الصاعدة , وفي النهاية الحوارية
..ثم خبرنا معه موهبة اختيار الشخوص الناهضة بالحدث من غير إفراط ولا تقصير, وموهبة
اختياروتطويع ضمير السرد (الأنا ) الأكثر
قدرة على كشف مغالق الذات البشرية ومكنوناتها , وتوصيف الظاهرة المرضية (بارانويا)
,ثم موهبة إضمار الأزمة والإنتقال فيها , وتوليفها , وتطويعها (زمن الكتابة وزمن
الأحداث , وزمن تيار الشعور , وزمن التاريخ ..) وموهبة صناعة المكان المتخيل
القابل للقراءة وللمماثلة ...وأخيرا نشير إلى لفتة قلما تُدْرَكُ هي الموسيقى
الداخلية أو ما يسميه النقد (البعد الموسيقي للحدث) , وهو في ميدان القصة القصيرة لا يتأتى إلا
عبرالتناغم الذي يشبه التغيير المقامي في التأليف الموسيقي , وطبعا فإن الإنتقال
من رؤية إلى أخرى يتطلب مهارة عالية ووتهيئة مقنعة تشبه نقطة التغيير التي هي نقطة
مشتركة بين مقامين موسيقيين تتيح التحول من خلالها من مقام إلى آخر وفي حالة
وجودها يحدث النشاز وتنكسر السيرورة المنطقية للأحداث , وطبيعي أن لا تُمْتَلَكَ
إلا بالدربة والموهبة وهما ما يميزان قصَّ
وسرد عبد الواحد الزفري في كل قصصه ...
الميلودي الوريدي
القصر الكبير في 11-3-2014